السبت، 30 يناير 2010

نيويورك


نيويورك ، نيويورك 3

على سطح الامباير ستيت: أيا جارتا لو تشعرين بحالي ..

د. أحمد خيري العمري – القدس العربي

http://www.quran4nahda.com/?p=1217

إعلان دعائي تجاري عن إحدى شركات التأمين، يظهر باستمرار على شاشة القنوات التلفزيونية الأمريكية، ويلخص بإيجاز واقع تعامل الشركات العملاقة التي تسيطر على أمريكا مع المستهلك أو الزبون أو العميل، أو أي مفردة بديلة أخرى حلت بالتدريج محل مفردة "الإنسان"..

في الإعلان، فتاتان صغيرتا السن، لا تتجاوزان الثامنة، تجلسان أمام موظف يرتدي ثيابه الرسمية..

الموظف يسأل الفتاة الأولى ( سمراء وملامحها عادية لكنها تبدو ذكية): هل تريدين حصاناً؟..

ترد عليه بفرح: نعم!

يخرج لها من جيبه حصانا خشبياً صغيراً ويناولها إياه، تأخذه بفرح وتبدأ باللعب به فورا.

يلتفت الموظف إلى الفتاة الأخرى، شقراء وعيناها زرقاوتان، يسألها السؤال ذاته: هل تريدين حصانا؟..

ترد عليه بفرح: نعم!

هذه المرة لا يمد يده إلى جيبه بل يلتفت إلى الخلف ويصدر صوتا كذلك الذي يصدره سائس الخيول.. ويظهر من خلف الحائط حصان حقيقي وسط صيحات الإثارة التي أحدثها ظهوره..

الفتاة الأولى تجتاز صدمتها وإحساسها بالخذلان بسرعة وتلتفت للموظف لتسأله ببساطة: لكنك لم تقل إنه بإمكاني أن أحصل على حصان حقيقي...!

يرد عليها بلؤم وبسرعة كما لو كان مستعدا للسؤال: لكنكِ أنتِ لم تسألي!

الإعلان يروج لشركة تأمين أخرى تقول إنها لا تتصرف "هكذا"، والـ"هكذا" هذه هي ما تفعله معظم الشركات التي تسيطر على الولايات المتحدة حاليا، وليس شركات التأمين فحسب، بل معظم الشركات التي يضطر الناس إلى التعامل معها، سواء كانت شركات الهاتف الجوال أو الهاتف غير الجوال أو الكهرباء أو البريد أو خدمات تزويد الانترنت أو التأمين الصحي.. أو أي شيء يخطر في بالك، هناك دوما شيء لم يخبروك به، وأنت لم تسأل عنه لسبب بسيط: أنه لم يخطر في بالك..

********

ما إن هبطتُ من الباص السياحي أمام الامباير ستيت حتى تلقفني أحدهم: هل تود الدخول إلى الامباير ستيت؟.. أجبته بالإيجاب، سحب البطاقة السياحية التي أحملها معي ونظر إليها وقال على الفور: هذه لن تنفع، عليك أن تضيف عشرين دولارا عليها للدخول..

دفعت العشرين دولارا دون تذمر، لم يكن في بالي أني سأدخل البناء مجانا لمجرد أني دفعت بطاقة سياحية تقول لي إني سأزور من خلالها كل المعالم السياحية في نيويورك، كنت قد فهمت ضمنا، أو حدست على الأقل، أن ذلك يعني أني سأتمكن من المرور أمام هذه المعالم فقط...

قال لي بعد أن دفعت ومع كلامه نظرة ذات مغزى، الآن عليك أن تذهب إلى الركن على اليسار وتنتظر لمدة ساعة لكي تستطيع الدخول إلى البناء.

هتفت بفزع: ساعة كاملة ؟.. هممت أن أساله لِمَ لَمْ يخبرني بذلك قبل أن أدفع له العشرين دولارا.. لكني تذكرت ذلك الإعلان ( أنت لم تسأل..) وتبين لاحقا أني سأتذكر ذلك الإعلان في كل مرحلة من مراحل الصعود إلى قمة الامباير ستيت.

قال لي: تستطيع أن تدفع عشرين دولارا أخرى وتذهب إلى الطابق الثاني في جولة افتراضية لمدة 20 دقيقة ومنها إلى القمة..

نظرت إليه بشك، وفي ذاكرتي العشرات من حالات مشابهة في بلداننا العربية، حيث يقول لك صاحب المكتبة المجاورة لمؤسسة لديك معاملة فيها، أو بائع الشاي على بابها، إنه يعرف موظفا ما في المؤسسة، ويعرض عليك أن يوفر وقتك وجهدك لقاء مبلغ معلوم..

قلت في نفسي: إني مثقل بوساوس نقلتها معي عبر المحيطات، إنها أمريكا يا رجل، ومهما كانت مساوئها فلن يصل الأمر لرشوة على باب الامباير ستيت.. والرجل يرتدي بزة رسمية تخص المبنى، ومعه هذه الآلة التي يسجل عبرها ما دفعته على بطاقتك، أي إنك لن تضع شيئا في الدرج بينما يتظاهر أنه لا يراك، أو إنك لن تضع شيئا في جيبه وأنت تقول: إنها "من أجل الأولاد!.. " أو " من أجل الإفطار !!".. إنها نيويورك، وهذه الأشياء تحدث هناك، أما هنا فالأمر مختلف رغم كل ما أدعي ويدعيه أمثالي من "أعداء النجاح"..

دفعت العشرين دولارا الثانية وأنا أتلفت حولي خوفا من أن ينتهي الأمر بـ "القبض على مسلم عربي يرشي موظفا في نيويورك".. لم يحدث شيء من هذا، أعطاني البطاقة التي دفعت عليها تقريبا بمقدار ثمنها الأصلي من أجل زيارة معلم واحد، بينما كان إعلان البطاقة يتحدث عن زيارة كل معالم نيويورك..

تسللت على أطراف أصابعي إلى الطابق الثاني وأنا لا أزال أبدو كالمتلبس بجرم "تجاوز الطابور".. وفوجئت – عندما وصلت إلى الطابق الثاني أنه ممتلئ بمن هم مثلي، أي إن التخلص من الطابور الأول يتطلب الدخول في طابور آخر..

هذا الطابور الآخر هدفه التأكد أنك قد دفعت "تحت".. لن يجبرك أحد على دفع عشرين دولارا أخرى أو أقل أو أكثر، لكن وسائل أخرى ستجبرك تقريبا على شراء التذكارات من حولك، سيكون هناك تماثيل صغيرة للأمباير ستيت وعليك حتما أن تشتري واحدا منها لكي تخلد زيارتك هذه، وسيكون هناك تماثيل أخرى للامباير ستيت و"كنغ كونغ" معلق في قمتها، وستتذكر ما يقال همسا وتصريحا عن وجود معان خفية في القصة بأسرها، فالكنغ كونغ في الفلم السينمائي هو قرد ضخم عملاق جيء به قسرا من أفريقيا إلى أمريكا ثم خرج عن السيطرة وتمرد على أغلاله، وقيل دوما إن القصة ترمز للسود في أمريكا الذين جيء بهم قسرا إلى أمريكا، والذين كثيرا ما يلقبون، ضمن ألقاب عنصرية اخرية، بالشمبانزي..

عندما ترى تمثال الكنغ كونغ على قمة الامباير ستيت، وبجانبه بالضبط تمثال أوباما، فان فكرة وصول السود إلى القمة، والتحريض الموجود في القصة سيأخذ أبعادا أخرى.. سيكون هناك تمثال دمية للسيدة الأولى ميشيل أوباما التي تعامل بالضبط كما لو كانت نجمة سينما، وسيكون هناك تمثال تذكاري للكلب الأول، كلب العائلة الرئاسية الذي يطلق عليه " بو أوباما" أي اسمه واسم عائلته حسب الأصول، وأخباره تتصدر أحيانا النشرات الإخبارية في السي أن إن وسواها .. (يخيل لي أن اختيار هذا الاسم المكون من حرفين بتشابه كبير مع اسم الرئيس السابق بالنسبة للكلب لم يكن مصادفة، لكن هذا محض سوء ظن حملته معي من الشرق الأوسط المتخلف الذي ينوء بحمل أفكار سلبية كهذه، أما هنا فالأمر مختلف وهم يتعاملون مع أعدائهم ومنافسيهم باحترام، عليك فقط أن تحرص على عدم متابعة الأخبار أو البرامج الحوارية لكي تتأكد من هذا، علما أن كل ضيوف برنامج "الاتجاه المعاكس" يستحقون جائزة في الأخلاق والأدب مقارنة بما يدور في برامج فوكس نيوز وMSNBC )..

إذا صمدت بوجه التذكارات فإن عليك أن تصمد بوجه رائحة الطعام التي تنبعث من كل مكان والتي تجعل مَنْ تشكل ذوقه على ثقافة الوجبات السريعة يسرع هو الآخر لشراء وجبة في ظل الانتظار.. حتى قاطعة التذاكر التي يفترض أن تبيعك التذكرة أو تتأكد من أنك ابتعتها من الموظف الآخر في الشارع، ستسألك قبل ذلك إن كنت تريد شيئا من المأكولات أو المشروبات قبل أن تتأكد من بطاقتك، وبجانبها سيكون هناك بطاقة تقول: " نقبل كل بطاقات الاعتماد بكل فخر !!!!!" We proudly accept all credit cards ويعني ذلك أن لا داعي لتقلق إذا كانت جيوبك قد فرغت من النقود، يمكن فقط أن تمرر بطاقة الاعتماد – مهما كان نوعها بكل فخر- وينتهي الأمر هنا..

سيستغرق الأمر كله حوالي 20 دقيقة، وأنت لم تبدأ الجولة الافتراضية بعد، وسيتم تنبيهك قبل الدخول إلى هذه الجولة أن من لديه مشاكل في العمود الفقري عليه أن لا يدخل !! لماذا لم يخبروك بذلك قبل أن تدفع؟ "لكنك لم تسأل !!".. .لماذا أصلا هذا التحذير وأنت تدخل جولة افتراضية وليس جولة مصارعة حرة؟؟

سنعرف لاحقا، خلال ذلك تظهر لنا على الشاشة "مرشدة افتراضية" تمثل كل افتراضات السياح عن الحلم الأمريكي، تقول إن اسمها "ديزيريه "، والاسم له وقع فرنسي يلهب خيال السياح، وربما يزعج زوجاتهم، لن يكون هناك أي داع حقيقي لوجود هذه المرشدة الافتراضية إلا للتغطية على المرشدة "غير الافتراضية" التي ستدخل علينا فور انتهاء ديزيريه من شرحها المغناج غير الضروري..

المرشدة الواقعية هي أقرب للصورة الحقيقية لأمريكا المعاصرة، إنها سوداء ( البيض سيصبحون أقلية في أمريكا بحلول عام 2050 ولن يكون ذلك بسبب السود فقط بل بسبب الهجرة من دول أمريكا اللاتينية والآسيوية ونمط التكاثر والإنجاب عند هؤلاء المهاجرين) وبدينة ( رغما عن أنف هوليوود، 65 % من الأمريكيين يعانون من البدانة المفرطة).. ولا علاقة لها بالغنج، كونها سوداء وبدينة لا يعني أن ديزيريه الافتراضية أفضل منها، إنها مجرد امرأة أخرى تسعى من أجل رزقها وتعمل في بناء يمثل الحلم الأمريكي بينما تمثل هي الجانب الآخر من هذا الحلم.. الواقع الذي قد يشيح الآخرون بوجوههم عنه ويصوبون أعينهم نحو الحلم في خيالهم ..

قالت لنا المرشدة الحقيقية شيئا لطيفا ولكن على نحو غير لطيف.. بالضبط مثل ذلك الصوت الذي يظهر لك على الهاتف في "خدمة رعاية الزبائن" ليؤكد لك أن مكالمتك تهمه ولكن يتركك تنتظر لاختبار صبرك..

الجولة الافتراضية في نيويورك تستغرق حوالي ثلاثين دقيقة، وبالتالي تكون قد دفعت عشرين دولارا لكي لا تقف في الطابور الذي يستغرق ساعة، ولكنك وقفت لمدة عشرين دقيقة من أجل انتظار ما سيستغرق ثلاثين دقيقة، أي إن الأمر سيان ،.. كل ما في الأمر أنهم قاموا بإلهائك في هذه الفترة، لكن لماذا لم يخبرك أحد؟ يجب أن تعرف الآن.. أنت لم تسأل!..

الجولة الافتراضية ليست سوى فيلم تشاهده عن مدينة نيويورك وأنت تجلس في مقعدك كما لو كنت في طائرة، ما هو افتراضي هنا أن التصوير يتم من الطائرة وأنك ومقعدك ستتقلب في المقعد كما لو أنك كنت في هذه الطائرة، وستنتهي الجولة الافتراضية وألم ظهرك ليس افتراضيا، كذلك الغثيان والشعور بالرغبة بالتقيؤ..

أخيرا نتجه إلى المصعد الذي يفترض أنه سيؤدي بنا إلى سطح الامباير ستيت، طابور آخر، يمر هذا الطابور بمصور فوتوغرافي يجبرك على الوقوف أمام مجسم افتراضي للامباير ستيت ليلتقط لك صورة تخلد زيارتك للمبنى، الصورة بعشرة دولارات، لكن يمكن أن تحتج مثلي على كل هذا ولا تذهب لاستلامها وبالتالي تفلت من الدفع..

قبل الوصول إلى المصعد اكتشفت أني سرت في الطريق الخطأ( لعدم وجود أي لافتة) واكتشفتني موظفة المصعد وقالت إن علي أن أدفع بطاقة أخرى، حاولت أن أفهمها ما حدث لكنها كانت تتصرف كما لو أن "عدم الفهم" جزء من توصيفها الوظيفي خاصة عندما يتعلق الأمر ببطاقة يجب أن يعاد شراؤها.. موظف البطاقات بدا متفهما لما حدث كما لو كان هذا يحدث دائما لكنه قال: علي أن أدفع ثمن بطاقة أخرى بكل الأحوال !!..

هذا بالضبط ما يحدث في أمريكا، ربما لن يكون هناك موظف يفتح لك درج مكتبه ويشير لك أن تدفع المقسوم، ولن يكون هناك بائع في مكتبة مجاورة يقول لك إنه يعرف المسؤول الفلاني، لكن هناك نظام كامل قائم على تقديس الربح واعتباره القيمة الأولى وربما الوحيدة، وهو ما يشرعن النهب والسرقة وامتصاص دم الناس ويسهل استسلامهم لذلك كله، إنهم يصيرون بالتدريج جزءا من هذا النظام في وظائفهم وأعمالهم، وبالتالي يصيرون شركاء في الجريمة بشكل يصعب عليهم أن يلاحظوا الظلم الموجود في النظام ككل، ناهيك عن التمرد ضد هذا الظلم.. ، بينما الأمر عندنا لا يزال في نطاق الفساد الإداري للأنظمة، صحيح أن الأمر لم يعد يثير حفيظتنا وأننا تعودنا عليه لكن الأمر لا يزال لا يخلو من تذمر وإن لم يكن هناك بوادر لتحول التذمر من الفساد إلى تمرد على هذا الفساد..

أخيرا وصلنا إلى قمة الامباير ستيت، ، الزحام شديد والريح سريعة وصوتها عال جدا، لا شيء يشبه ذلك المنظر الرومانسي الحالم الذي قدمته هوليوود، ليس هناك أي متسع للقاء غرامي أو لكلام عشاق إلا إذا كانا من رواد الفضاء مثلا..

المنظر باختصار مخيب للآمال، لا أريد أن أحسب كم "عشرين دولارا " دفعت، لكن الأمر أكبر من ذلك.. أحسست أن الهدف الأساس من الوصول إلى القمة، ليس مشاهدة شيء لم تشاهده من قبل، أو معرفة شيء لم تعرفه أو تدركه من قبل، ليس هناك هدف سوى أن تقول إنك زرت الامباير ستيت وتلتقط صورة على قمتها بكل ما تمثل من رمزية في الحلم الأمريكي.. لم أشعر أني وحدي في هذا الإحساس، على الوجوه كنت تقرأ إحساسا عاما بالخيبة، كما لو كان الجميع يقولون "" هل هذا كل شيء؟".. لكنهم يغطون إحساسهم بالخيبة بالتقاط الصور التي ستثبت للأصدقاء (ولأصدقاء الأصدقاء !) على الفيس بوك أنهم كانوا فعلا هناك..

تذكرت قصة للأديبة الكبيرة غادة السمان، تروي فيها البطلة خيبتها عندما رأت نهر الدانوب الشهير، الذي رسمت له في بالها صورة زرقاء جدا بإيحاء معزوفة "الدانوب الأزرق" لشتراوس.. لكنها تفاجأ بالنهر رماديا كئيبا وقد ملأته المجارير بالقاذورات وفضلات المصانع.. تروي خيبه أملها تلك لسائق السيارة الذي أقلها، وتحكي له عن حطام أحلامها، وتعتقد أنه ينصت لأحزانها باهتمام، ثم تكتشف أن بينها وبينه حائطاً زجاجياً لم تنتبه له.. وأنه لم يسمع كلمة واحدة مما قالت..

الأمر على الامباير ستيت مشابه جدا، تكتشف بعد العناء أنك تطل على غابة من ناطحات السحاب الإسمنتية المتراصة، الإنسان فيها مسحوق تماما، إنه الأداة التي عبرها ارتفع هذا البناء كله، لكن هذا البناء لم يرفعه، بل زاد من الثقل على كاهله.. تحول بالتدريج ليحمل ناطحات السحاب على أكتافة، لينسحق تحتها بينما تثري طبقة لا يتجاوز حجمها 1 % وترمي له بالفتات وتهدده بالبطالة إن لم يستمر بحملها على أكتافه، لم يعد مصاصو الدماء المعاصرون بحاجة إلى أن يقتربوا من ضحاياهم ويغرسوا أنيابهم في أعناقهم، صار الضحايا يتبرعون بدمائهم في قنانٍ "وهم صاغرون.. "

تقف على سطح الامباير ستيت وتستشعر خيبة البشرية، ستشعر أن سؤالا جديدا يضاف إلى أسئلتها المزمنة: هل استحق الأمر كل هذا العناء ؟.. أم إنه زاد العناء رهقا وما قدم الهدف المنشود ابتداءً؟..

على سطح الامباير ستيت، ستتذكر ذلك الوعد الإلهي "سنرهقه صعودا".. كأنما سيكون الصعود هنا محكوما بالرهق والعناء العبثي ما دام قد انفصل عن القيم الإلهية لحظة صعوده.. ستبدو لك الآية في إعجازها الدائم كما لو أنها تجمع بين ناطحات السحاب وبين كل الأمراض التي صاحبت عصر ناطحات السحاب.. القلق، الكآبة، الطلاق، الولادات غير الشرعية، الانتحار.. و كل ذلك في كلمتين اثنتين فقط.. "سنرهقه صعودا"..

ستبدو لك الريح العالية على سطح الامباير ستيت كما لو أنها تقول لك بصوتها العالي إن البشرية صارت في مهب الريح، وستبدو لك ناطحات السحاب التي تراها من هناك كما لو أنها شواهد إسمنتية عملاقة لمقبرة كبيرة دفنت الإنسانية فيها كل قيمها وثوابتها، فخسرت أعظم ما تملك.. ولم تربح شيئا مهما بالمقابل..

لم أكن أدري أن الحمام يمكن له يطير على هذا الارتفاع، لكني فوجئت على سطح الامباير ستيت بحمامة تقف على حافة السياج الذي صمم خصيصا لمنع الانتحار.. كانت حمامة دامعة العينين كما لو أن دمعها جزء من عينيها، ترتجف من شدة الريح أو من شيء آخر..، بدت كما لو كانت تائهة وقد وصلت إلى هنا بالخطأ ولم يعد هناك مجال للعودة (مثل الكثيرين ممن حطوا على الحلم الأمريكي ولم يعد بإمكانهم التراجع عنه.. )..

في الوجدان الشعبي الشرقي عامة والعراقي خاصة، ترتبط الحمامة بالفراق والحنين، دوما هناك من يبث الحمام لواعجه ويحمله رسالة إلى حبيب مفارق، أو إلى وطن نفارقه ولكنه لا يفارقنا..

بدت هذه الحمامة أضعف من أن تتحمل رسالة كهذه، بل بدت كما لو أنها تريد تحميلي أنا رسالة ما..

تذكرت قصيدة لم تأت في بالي منذ أيام الثانوية الغابرة، ولعل هذه المرة الأولى التي يذكر فيها أبو فراس الحمداني على سطح الامباير ستيت ، تذكرت حواره مع حمامة وقفت عند نافذة سجنه

" أقــول وقد ناحت بقربي حـــمامة.. أيـــا جــارتا لـــو تشعـرين بحالي".. ورأيته هنا يتمثل البشرية بأسرها "أيا جــــــارتا ما أنصف الدهر بيننـا.. تعالي أقاسمـــــك الهموم تعالي".. وستكون "القسمة" ضيزى، تستأثر البشرية فيها بحصاد الهموم بما لا يقارن..

" أيضحك مأســـــــور وتبكي طليقة.. ويسكت محــــزون ويندب سالي" ولكن المأسور هنا ليس أبا فراس أو أي سجين خلف القضبان فحسب، إنه أيضا ذلك المأسور الذي يتوهم أنه حر، ويتوهم أنه سعيد، ولا يرى أن كل ما حدث هو أن الأغلال تغير شكلها وصارت أكثر خفاء وحذقا، وأنهم غرسوا مفهوما جديدا للسعادة يكاد يطابق "آلية الإنكار" الذي يواجه به البعض مصائبهم ومشاكلهم..

على سطح الامباير ستيت، تذكرت، أنا العراقي الذي يختزن كل مواويل الحزن وقصصه في ذاكرته، ذلك البيت الأخير الهائل من قصيدة أبي فراس الحمداني العراقي الموصلي (مثلي بكل فخر.. )..

"لقد كنتُ أولى منك بالدمع مقلة.. ولكن دمعي في الحـــوادث غالي"..

أمسكت دمعة عراقية متكبرة، تتمسك بالأهداب بإباء، وقلت كما سيقول أي عراقي: وأنا أيضا....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق