الأربعاء، 14 أكتوبر 2009

" حاضر بابا !"


" حاضر بابا !"

د.أحمد خيري العمري

(كتبتها لأبني زين العابدين قبل ثمان أشهر ، لكنه فضّل أن لا تنشر..ثم حدث أن نشرت مقالة اخته "حجاب آمنة" ، و طالبه البعض بأن يفرج عن ما كتب له ..فوافق أخيرا..)

الحبيب زين العابدين..

أقول لك السلام عليكم، وأسمعك ترد عبر القارات، ترد بالطريقة المميزة التي تعرف كم أحبها، وكم أحب سماعها منك مرة بعد أخرى.. هي والجملة الأخرى، التي تكاد تكون مثل علامة مميزة لك.. والتي اخترتها عنوانا لرسالتي..
تعرف أني كنت أعلق دوما مازحا أنها "مجرد كلام".. لكني أحبها أيضا رغم ذلك.. و أقول لك الآن: إني سأحبها أكثر إن لم تكن مجرد كلام.. فدعها تكن كذلك.. (أسمعك تقول: حاضر بابا !).
أعرف كم ستكون مشاعرك متضاربة تجاه هذه الرسالة، فخلف قشرة لا مبالاتك التي تغيظ الجميع، أعرف أن هناك في أعماقك راداراً دقيقاً يتحسس لأدق الإشارات.. أعرف أن وجهك الآن ربما يكون قد تغير، وأن دمعة ما على وشك النزول من عينيك.. أقدر ذلك وأتفهمه، لكن أطلب منك ألا تتمادى فيه، بالضبط كما أطلب ألا تتمادى في اللامبالاة، لا تتمادى في جعل مبالاتك تعطل تفاعلك مع الأمور.. لا تدع ذلك يستهلكك ويستنفذ طاقتك.. بين اللامبالاة المغيظة، والمبالاة المبالغ بها، هناك مساحة وسطى علينا أن نجعل أنفسنا دوما بها.. مساحة هي الأكثر خصوبة والأكثر قدرة على الإنتاج..
أعرف أيضا أنك لن تفوت الفرصة دون أن تحاول أن تغيظ شقيقتيك.. على الأقل آمنة.. أقول لك يا زين لا تفعل ذلك.. ليس فقط لأني سأكتب لهما أيضا عندما يحين الوقت.. ولكن لأن ذلك ما يجب أن تكف عنه ( حاضر بابا !)
إثنا عشر عاما يا زين منذ أن رزقني الله بك وجعلتني أبا.. إثنا عشر عاما تغيرت فيها أشياء كثيرة في العالم، في وطننا.. فينا.. تغيرت حياتي.. وتغيرت أيضا حياتك.. وأنت تعرف طبعا ما أعنيه ( أزم شفتي هنا، وأتمنى أن تفعل أنت أيضا، فلنتفق أن نكون أقوياء.. سنتظاهر بالقوة حتى لو لم نكن أقوياء.. لأن ذلك قد يجعلنا أقوياء لاحقا.. )..
.. سنقول الحمد لله، وعندما ستفهم الحمد لله فعلا يا زين، ستفهم أن " الحمد " يستحق أن تقول من أجله "الحمد لله"..
إثنا عشر سنة إذن يا زين منذ أن جعلني مجيئك - الذي أحمد الله عليه- أبا.. وجعلني ذلك أفهم نفسي أكثر، وأفهم علاقتي بأبي أكثر.. لكني لا أريد أن أتحدث عن نفسي اليوم.. أريد أن أتحدث عنك.. بعبارة أخرى: عنّا..
كنت أتمنى أن أكون قريبا منك اليوم.. أنا واثق أنك تريد هذا أيضا، لكن يا زين، القرب والبعد نسبيان، كما الضعف والقوة..
عندما كنت في مثل سنك كان والدي قريبا جدا مني بمقاييس الأمتار والسنتمترات.. لكنه كان بعيدا جدا.. منذ أن أخذه المرض من دوره كأب، أو على الأقل منذ أن أخذ المرض كل احتمالية للقرب أو لدوره كأب..
كنت في العاشرة عندما سقط والدي مشلولا، وفقد القدرة على النطق والتعبير, وبقي كذلك إلى أن توفي بعد 23 سنة.. كما تذكر جيدا.. ( المدهش أنه عز وجل قد اختار تأريخ ذلك اليوم الذي سقط فيه والدي، الخامس عشر من شباط، ، ليكون يوما لمجيئك أنت، كما لو أنه درس لي عن تداخل الأشياء، عن ولادة الأمل من أقاصي اليأس.. )
إذن كما ترى، ربما نكون قريبين جدا.. ولكن مع ذلك نكون بعيدين جدا: بعيدين دونما أمل..
وربما نكون على بعد آلاف الكيلومترات، ورغم ذلك فإننا نجد وسيلة للتواصل.. وسيلة للقرب الذي قد يكون أقوى من القرب المباشر.. أقرب من الأمتار والسنتمترات..
والحقيقة أني أشعر بالقرب منك ومن شقيقتيك أكثر من أي وقت، لا يوجد شيء أراه دون أن أحاول أن أتوقع رد فعلكم تجاهه، بالضبط أحاول أن أراه كما أتوقع أنكم سترونه أنتم، وأحاول أيضا أن أتدخل هنا وهناك، وأحضر إجابات تجعل عملية التفاعل بينكم وبين ما ترون منضبطة دون انبهار مرضي، ودون عداء مرضي أيضا..
و لذلك فإن الطبيعة الخلابة في فرجينيا، بالذات التي في الطريق بين فرجينيا وواشنطون دي سي، ستجعلني أقول لكم كل مرة، كل مرة !: إن هذه الطبيعة من حق السكان الأصليين! لكي لا ننسى قط أن ما حباه الله لهذه البلاد من طبيعة هو ما جعل أمريكا بالقوة التي هي بها الآن، وإنها أصلا لم تكن لهم.. بل بنيت على حق مغدور ومنهوب..
و عندما أرى الصف المنتظم الطويل أمام الباص ( حتى قبل وصوله بربع ساعة وأكثر)، فإني لا أنسى أن اذكر أن هذا التنظيم الذي يستحق الإعجاب لم يتطور ليصير تنظيما في العلاقات الزوجية والشخصية، وهكذا فإنهم يقفون بمنتهى النظام أمام الباص ( وهو أمر يستحق الإعجاب وديننا يأمرنا به بكل الأحوال ) لكنهم يتدافعون في أمور أخرى، قد تكون أخطر على المدى البعيد..
حتى أجمل ما رأيت هنا، وهو عادة القراءة المنتشرة ( ليس فقط في المترو والباص، بل حتى أثناء المشي ) حتى هذه العادة التي نعرف جيدا أن من سيفعلها في بلادنا سيعد مجنونا رسميا دون الحاجة إلى التأكد من الطبيب، وهي العادة التي أسرعتُ إلى أخذها دون تحفظ بسرعة كما لو أنني كنت أنتظر ذلك منذ أن ولدت، حتى هذه العادة ما كنت سأدعها تمر دون أن أنبهكم إلى العناوين المقروءة، إذ إن إعجابي بالعادة (الأمريكاني!) لن يجعلني أغفل عن كون معظم الكتب المقروءة والمنتشرة كتبا سطحية وتجارية أو روايات إثارة وتشويق بلا عمق ولا أهمية حتى من الناحية الأدبية..
باختصار، أنتم معي دوما، أفكر فيما ستقولون، وأفكر فيما سأقول، أتصرف ككيميائي في مخبره منشغل دوما بتحضير اللقاحات والتطعيمات، التي آمل أن تمنحكم المناعة والحصانة، لا من أجل مجيء "محتمل" لأمريكا فحسب ولكن لأن الانبهار موجود في كل مكان، سواء كنت هنا أو هناك، تعيش المشهد بشكل حي ومباشر، أو تعيشه من خلال فوكس أو channel 2.. أليس كذلك ؟ ( حاضر بابا!)..
حبيبي زين..
ها أنت تتوّج أعوامك الاثني عشر بمسؤوليات ربما تبدو أكبر منك ومن حجمك، و لكن الكبار لا يولدون كبارا يا زين، إنهم يكبرون بالتدريج، بالضبـط إنهم يخـتارون أن يكبروا ( والبعض لا يفعل ذلك على الإطلاق رغم أن جسمه سينمو وسينبت له الزغب فوق شفتيه )، لكن الكبار كانوا يوما صغارا، ثم صقلتهم تجاربهم، وجعلتهم ينضجون.. مرة أخرى: لقد اختاروا ذلك..
و ها أنت الآن، تأخذ بيد خالة أبيك، نيابة عني وعن آخرين ، و عن كل ما علمناه لك ، وخاصة ما علمته لك أمك .. وتقودها إلى المستشفى.. و تبات معها الليل أيضا..
أقول لك، دمعت عيناي عندما أخبرتني أمك بذلك.. لكنها دمعة الفرح.. تذكرت كلمات أغنية كنت أدندنها لك يوم كنتَ ابن أشهر.. لا أدري إن أخبرتُكَ بذلك أو لا..
كنت أقول لك كلمات أغنية ربما لم يقصد كاتبها إلا كلاما عاطفيا عاديا " سخافات حب كما تقول أختك أروى !"، لكن ما كنت أرددها كما قصدها مؤلفها.. وإلى الآن، لا أعتقد أن عواطف كهذه يمكن أن تكون حقيقية إلا إذا كانت صادرة من أم لابنها أو أب لابنه..
كانت الكلمات تقول.. "عندي ثقة فيك.. عندي أمل فيك.. .و بيكفي !.. شو بدك يعني أكثر بعد فيك؟.. عندي حلم فيك، عندي ولع فيك.. و بيكفي !.. شو بدك أنه يعني موت فيك ؟ والله رح موت فيك.. صدق إذا فيك.. وبيكفي!.. شو بدك مني إذا متت فيك ؟.. بكتب شعر فيك، بكتب نثر فيك.. وبيكفي ! شو ممكن يعني أكتب بعد فيك؟"..
و لكني لم أكتب الشعر والنثر فيك حقا، كل ما كتبته بطريقة ما، هو من أجلك، من أجل شقيقتيك أيضا، من أجل ذلك الجيل الذي ثقتي فيه مستقاة من إيماني بالله، إيماني بأن هذا الجيل قادم لا محالة.. وأملي أن تكونوا منه.. أن تلحقوا به.. أو يلحق بكم.. لم تكن ثقتي مجردة عن العمل في "البذار" لما أعتقد أنه يساهم في مجيء هذا الجيل .. أو على الأقل يسرّع فيه..
ولذلك عندما يبدر منك أو من شقيقتيك ما يشير إلى أن "الرسالة وصلت" فإني أشعر أن ثقتي قد تكون في محلها.. وأنكم ربما قد صرتم من ذلك الجيل الآخر الذي أهديت له كتابي الأول، وكل كتبي بطريقة ما، الجيل الذي عندما أتفاءل أن أرى إمكانية انتمائكم إليه..
هذه المرة، ربما لن يكون هناك هدية تقليدية كما في كل مرة، وكان يمكن أن أفعل ذلك رغم البعد، وقد فعلتها مرة وأنت تذكر ذلك، لكن الهدية العادية كانت ستجلب الفرح ربما، لكن ليس القرب.. وأعتقد أن القرب الآن هو ما يهم أكثر..
اليوم وأنا أكتب ويحدث في البيت ما يحدث، أعرف كم هو ثقيل أن تتحمل كل ما هو على عاتقك اليوم، أعرف أيضا كم هو ثقيل عبء أن تكبر وأنت في الثانية عشرة، لكني فرح رغم ذلك، ليس لأن ما تقوم به اليوم يكتب في صحيفة أعمالك فقط، بل لأن ذلك يكتب أيضا في سجل شخصيتك ( ربما الأمران متطابقان !) و ها أنت تتلقى ثقلا على كتفيك، لكنك تكسب أيضا تجربة جديدة.. تكسب خبرة جديدة.. نستطيع دوما أن نتجاوز مصاعبنا بهذه الطريقة، قد يبدو الأمر في البداية تلاعبا في الألفاظ، لكن الأمر سينجح، وسيبدو الثقل أخف! صدقني.. ( حاضر بابا !)..
على الأقل، أعرف اليوم أن أمك ليست وحدها، وأني لم أتركها وحدها في الشام، بل تركتها مع رجل راشد "عندي ثقة فيه !"..
( بالمناسبة: أمك ليست فقط أفضل أم في العالم كما أخبرتها أنت قبل أيام، لكنها أيضا دليل من أدلة وجوده عز و جل.. على الأقل بالنسبة لي، لكن هذا موضوع آخر.. وقد نتحدث عنه لاحقا.. حاضر بابا !)
وبالمناسبة أيضا عندما دعاني صديقي الأفغاني إلى منزله، صلينا العشاء جماعة، وصلى ابنه بقربي، ابنه اسمه مؤمن، وهو بعمرك بالضبط.. وعندما أنهينا الصلاة، منعت نفسي بصعوبة من أن أحتضنه، وأغمره، كما كنت أفعل معك ومع آمنة بعد كل صلاة نصليها معاً..
شيء آخر: كنت سابقا أغمركم فقط عندما نصلي جماعة، اليوم أحتضنكم بعد كل صلاة..
لا.. لا تبك يا زين.. لقد اتفقنا أن نكون أقوياء.. حتى لو لم نكن أقوياء فعلا.. فالقوة تأتي أحيانا من التظاهر بها.. .
لا تبكِ.. زم شفتيك..
أريدك أن تسمعنيها عالية ومتفجرة، كما أُحبها، كما هي دوما..
" حاضر بابا.. !"..
قولا.. و فعلا.. هذه المرة!

ملحوظة : كل ما أكتبه يكون برسم النشر العاجل أو الآجل.. وكل من أكتب لهم يعرفون ذلك ( ويأخذون احتياطاتهم منه !).. هذه المرة على سبيل الاستثناء، لك الحق أن تكون الوحيد الذي يقرأ الرسالة.. لك الحق أن ترفض أن أنشرها.. اخترت أنا منذ زمن ألا أترك شيئا للأدراج ( ولا للورثة!).. لكن إن أحببت أنت سأفعلها (هذه المرة فقط).. وإن أحببت أن أشارك الجميع بها فهذا أيضا يعود لك..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق